قال الإمام الغزالي في الإحياء: "اعلم أن من غلب
قلبَه حبُّ الجاه صار مقصورَ الهم على مراعاة الخلعة، مشغوفًا بالتودُّد
إليهم والمراءات لأجلهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله متلفتًا إلى ما
يعظِّم منزلته عندهم، وذلك بذر النفاق وأصل الفساد، ويجرُّ ذلك إلى
التساهل في العبادات والمراءاة بها، وإلى اقتحام المحظورات للتوصل إلى
اقتناص القلوب".
وعلاجه في العلم والعمل؛ فالعلم يؤدي
به إلى الوقوف على الأسباب التي أدَّت به إلى هذه المهلكة؛ فعليه أن
يتخلَّص من مراءاة الناس؛ انتظارًا لمقولة مدح أو ثناء عليه، وعليه أن
يدرك أن ما عند الله خير وأبقى، وأن الناس مخلوقون مثله؛ لا يملكون له
ضرًّا ولا نفعًا، وأول هذه الحلول ثقته بنفسه، وأنه ليس بحاجة إلى مدح أو
ثناء من أحد؛ فالله يعلم ما يقوم به ويعلم نيته فيوجِّه وجهه إلى الله؛
فهو الملك الوهاب.
ومن العمل أن يزور القبور فيوقف
نفسه على حقيقة الحياة الدنيا، وليردعها عن تماديها في غيِّها، وعليه أن
يصاحب الزُّهَّاد والصالحين؛ ففي مصاحبتهم خيرٌ كثيرٌ "إخواننا أحب إلينا
من أهلينا؛ لأن إخواننا يذكِّروننا بالآخرة، أما أهلونا فيذكروننا بالدنيا
ولهوها".
وعليه أن يباشر أفعالاً تضع من نفسه التي
استحوذ عليها حبُّ الظهور؛ وذلك بأن يوردها موارد التواضع، مثل الذهاب إلى
زيارة الفقراء، ومؤاكلتهم ومجالستهم، وتجاذب أطراف الأحاديث معهم؛ ليس
بامتداد الماضي السقيم؛ بل بميلاد نفسٍ جديدةٍ خافضةِ الجناح، تذكر الموت
وتخشى يوم الحساب.
ويا حبذا لو كان هناك عمل يعاون فيه
أهله، فيحمل معهم كما يحمل الحَمَّالون، ويغَبِّرُ ثيابه ساعاتٍ يستشعر
فيها الإخلاص لله، والتخلص من أدران ما كان قد علق بهذه النفس من آفاتٍ
فيطهِّرها.
ويقول الغزالي في الإحياء: "اعلم أن أكبر
الناس إنما هلكوا بخوف مذمَّة الناس وحب مدحهم، فصارت حركاتهم كلها
موقوفةً على ما يوافق رضا الناس رجاءً للمدح وخوفًا من الذم".
وقال بعض الصالحين: "من فرح لمدحٍ فقد مكَّن الشيطان من أن يدخل في نفسه"،
وقيل: "إذا قيل لك "نِعْم الرجل أنت" فكان أحبَّ إليك من أن يقال لك:
"بِئْس الرجل أنت"، فأنت والله بِئْس الرجل".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرةً للمادح: "ويحك.. قصمتَ ظهره؛ لو سمعك ما أفلح إلى يوم القيامة".
وكان الصالحون يمقتون المدح؛ لأنهم كرهوا المدح خيفة أن يفرحوا بمدح الخلق
وهم ممقوتون عند الخالق عز وجل، فكان اشتغال قلوبهم بحالهم عند الله تعالى
يُبغض إليهم مدح الخلق.
من علم يقينًا أن الأرزاق
والآجال بيد الله تعالى قَلَّ التفاته إلى مدح الخلق وذمِّهم، وسقط من
قلبه حبُّ المدح والثناء، واشتغل بما يهمه من أمر دينه.
من علامات الإخلاص استواءُ المدح والذم لديك، وعدَّها الغزالي أولَ درجات
الكمال؛ فالعقلاء يفرحون بمن ينصحهم، ولو كان النصح ذمًّا لبعض صفاتهم
وأعمالهم.
فرحم الله القائل: "رحم الله رجلاً أهدى
إليَّ عيوبي"، ويُروَى أن أحد الصالحين كان ينفرد بمن يتوسَّم فيه الصدق،
ويُقسِم عليه أن يصدَقه في بيان عيوبه مهما كانت، وكان يعدُّها منه
مِنَّةً فيدعو الله له بجزيل الثواب؛ وذلك لأن من يُهدي إليك عيوبك إنما
يكشف لك جوانب تستحيل لك رؤيتها بنفسك، ولعل هذا من معاني "المؤمن مرآة
أخيه".
والنصح بكشف النقائص ليعمل صاحبها على تداركها
وتلافيها منهج الساعين نحو العلا ومدارج الكمال، وماذا يدل على أهمية
النصح وجديته أكثر من قوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة"؟!
هذا القصر المجازي الذي جعل الدين وكأنه حُصِرَ في النصيحة؛ لا يتجاوزها
إلى غيرها من الصفات والأعمال، تنزيلٌ للموجود منزلة غير الموجود؛ لأن
السياق يقتضي اختصاص هذا بالذكر للحاجة القصوى إليه، فكأنه استحوذ مساحة
الذكر وأخرج غيره من دائرة الاهتمام، وهذا قرينُ حاجةِ السياق، ووَفق
ضرورة الموقف وطبيعة المخاطب.
والنصح يعدُّ من
مكمِّلات نقد الذات، بل إنه أقواها؛ لأنه رؤيةٌ من الخارج، ابتعد فيها
طابع المجاملات، وتجلَّت فيها الحقائق؛ تُوضع لمتلمِّسها كأدويةٍ تُعيْن
صاحبها حال بحثه عن الأدواء يبغي علاجها.
إشارةٌ للتوقف
ليس ما قَصَد إليه العلماء بذم حب الظهور أن يعمل المسلم على طمس ذاته؛
فهذا فَهْمٌ سقيمٌ، أو العمل على تحقيرها، وإظهارها دائمًا بالوهن واتهام
الذات حتى يصبح أشبه بمرضٍ نفسي؛ مما يترتب عليه أحيانًا إخلاء الساحة
للمنتهزين وأصحاب الأفكار الخَرِبة، ولا ننسى حديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "رحم الله امرأً عرف قدر نفسه"، أي عرف قدراتها فوضعها حيث
تنتج وتبدع، ولم يهلكها بأن وضعها فيما لا طاقة لها به؛ فأبان عوارها وكشف
نقائصها، فقضى عليها بإيرادها مواردَ اللوم والمعاقبة؛ لذلك استحقَّ
المُدرِك لقدرات ذاته الرحمةَ.
قلبَه حبُّ الجاه صار مقصورَ الهم على مراعاة الخلعة، مشغوفًا بالتودُّد
إليهم والمراءات لأجلهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله متلفتًا إلى ما
يعظِّم منزلته عندهم، وذلك بذر النفاق وأصل الفساد، ويجرُّ ذلك إلى
التساهل في العبادات والمراءاة بها، وإلى اقتحام المحظورات للتوصل إلى
اقتناص القلوب".
وعلاجه في العلم والعمل؛ فالعلم يؤدي
به إلى الوقوف على الأسباب التي أدَّت به إلى هذه المهلكة؛ فعليه أن
يتخلَّص من مراءاة الناس؛ انتظارًا لمقولة مدح أو ثناء عليه، وعليه أن
يدرك أن ما عند الله خير وأبقى، وأن الناس مخلوقون مثله؛ لا يملكون له
ضرًّا ولا نفعًا، وأول هذه الحلول ثقته بنفسه، وأنه ليس بحاجة إلى مدح أو
ثناء من أحد؛ فالله يعلم ما يقوم به ويعلم نيته فيوجِّه وجهه إلى الله؛
فهو الملك الوهاب.
ومن العمل أن يزور القبور فيوقف
نفسه على حقيقة الحياة الدنيا، وليردعها عن تماديها في غيِّها، وعليه أن
يصاحب الزُّهَّاد والصالحين؛ ففي مصاحبتهم خيرٌ كثيرٌ "إخواننا أحب إلينا
من أهلينا؛ لأن إخواننا يذكِّروننا بالآخرة، أما أهلونا فيذكروننا بالدنيا
ولهوها".
وعليه أن يباشر أفعالاً تضع من نفسه التي
استحوذ عليها حبُّ الظهور؛ وذلك بأن يوردها موارد التواضع، مثل الذهاب إلى
زيارة الفقراء، ومؤاكلتهم ومجالستهم، وتجاذب أطراف الأحاديث معهم؛ ليس
بامتداد الماضي السقيم؛ بل بميلاد نفسٍ جديدةٍ خافضةِ الجناح، تذكر الموت
وتخشى يوم الحساب.
ويا حبذا لو كان هناك عمل يعاون فيه
أهله، فيحمل معهم كما يحمل الحَمَّالون، ويغَبِّرُ ثيابه ساعاتٍ يستشعر
فيها الإخلاص لله، والتخلص من أدران ما كان قد علق بهذه النفس من آفاتٍ
فيطهِّرها.
ويقول الغزالي في الإحياء: "اعلم أن أكبر
الناس إنما هلكوا بخوف مذمَّة الناس وحب مدحهم، فصارت حركاتهم كلها
موقوفةً على ما يوافق رضا الناس رجاءً للمدح وخوفًا من الذم".
وقال بعض الصالحين: "من فرح لمدحٍ فقد مكَّن الشيطان من أن يدخل في نفسه"،
وقيل: "إذا قيل لك "نِعْم الرجل أنت" فكان أحبَّ إليك من أن يقال لك:
"بِئْس الرجل أنت"، فأنت والله بِئْس الرجل".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرةً للمادح: "ويحك.. قصمتَ ظهره؛ لو سمعك ما أفلح إلى يوم القيامة".
وكان الصالحون يمقتون المدح؛ لأنهم كرهوا المدح خيفة أن يفرحوا بمدح الخلق
وهم ممقوتون عند الخالق عز وجل، فكان اشتغال قلوبهم بحالهم عند الله تعالى
يُبغض إليهم مدح الخلق.
من علم يقينًا أن الأرزاق
والآجال بيد الله تعالى قَلَّ التفاته إلى مدح الخلق وذمِّهم، وسقط من
قلبه حبُّ المدح والثناء، واشتغل بما يهمه من أمر دينه.
من علامات الإخلاص استواءُ المدح والذم لديك، وعدَّها الغزالي أولَ درجات
الكمال؛ فالعقلاء يفرحون بمن ينصحهم، ولو كان النصح ذمًّا لبعض صفاتهم
وأعمالهم.
فرحم الله القائل: "رحم الله رجلاً أهدى
إليَّ عيوبي"، ويُروَى أن أحد الصالحين كان ينفرد بمن يتوسَّم فيه الصدق،
ويُقسِم عليه أن يصدَقه في بيان عيوبه مهما كانت، وكان يعدُّها منه
مِنَّةً فيدعو الله له بجزيل الثواب؛ وذلك لأن من يُهدي إليك عيوبك إنما
يكشف لك جوانب تستحيل لك رؤيتها بنفسك، ولعل هذا من معاني "المؤمن مرآة
أخيه".
والنصح بكشف النقائص ليعمل صاحبها على تداركها
وتلافيها منهج الساعين نحو العلا ومدارج الكمال، وماذا يدل على أهمية
النصح وجديته أكثر من قوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة"؟!
هذا القصر المجازي الذي جعل الدين وكأنه حُصِرَ في النصيحة؛ لا يتجاوزها
إلى غيرها من الصفات والأعمال، تنزيلٌ للموجود منزلة غير الموجود؛ لأن
السياق يقتضي اختصاص هذا بالذكر للحاجة القصوى إليه، فكأنه استحوذ مساحة
الذكر وأخرج غيره من دائرة الاهتمام، وهذا قرينُ حاجةِ السياق، ووَفق
ضرورة الموقف وطبيعة المخاطب.
والنصح يعدُّ من
مكمِّلات نقد الذات، بل إنه أقواها؛ لأنه رؤيةٌ من الخارج، ابتعد فيها
طابع المجاملات، وتجلَّت فيها الحقائق؛ تُوضع لمتلمِّسها كأدويةٍ تُعيْن
صاحبها حال بحثه عن الأدواء يبغي علاجها.
إشارةٌ للتوقف
ليس ما قَصَد إليه العلماء بذم حب الظهور أن يعمل المسلم على طمس ذاته؛
فهذا فَهْمٌ سقيمٌ، أو العمل على تحقيرها، وإظهارها دائمًا بالوهن واتهام
الذات حتى يصبح أشبه بمرضٍ نفسي؛ مما يترتب عليه أحيانًا إخلاء الساحة
للمنتهزين وأصحاب الأفكار الخَرِبة، ولا ننسى حديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "رحم الله امرأً عرف قدر نفسه"، أي عرف قدراتها فوضعها حيث
تنتج وتبدع، ولم يهلكها بأن وضعها فيما لا طاقة لها به؛ فأبان عوارها وكشف
نقائصها، فقضى عليها بإيرادها مواردَ اللوم والمعاقبة؛ لذلك استحقَّ
المُدرِك لقدرات ذاته الرحمةَ.