بسم الله الرحمن الرحيم
::: فوائد من قصة موسى عليه السلام والخضر:::
(في هذه القصة العجيبة
الجليلة، من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير، ننبه على بعضه بعون الله.)
فمنها:فضيلة العلم،
والرحلة في طلبه، وأنه أهم الأمور، فإن موسى عليهالسلام رحل مسافة طويلة، ولقي النصب في
طلبه، وترك القعود عند بنيإسرائيل، لتعليمهم وإرشادهم، واختار السفر
لزيادة العلم على ذلك.
ومنها: البداءة بالأهم
فالأهم، فإن زيادة العلم وعلم الإنسان أهم من تركذلك، والاشتغال بالتعليم من دون تزود من
العلم، والجمع بين الأمرين أكمل.
ومنها: جواز أخذ الخادم
في الحضر والسفر لكفاية المؤن، وطلب الراحة، كما فعل موسى.
ومنها: أن المسافر لطلب
علم أو جهاد أو نحوه، إذا اقتضت المصلحة الإخباربمطلبه، وأين يريده، فإنه أكمل من كتمه، فإن
في إظهاره فوائد من الاستعدادله عدته، وإتيان الأمر على بصيرة، وإظهارًا
لشرف هذه العبادة الجليلة، كماقال موسى: { لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ
مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْأَمْضِيَ حُقُبًا }
وكما أخبر النبي صلى
الله عليه وسلم أصحابه حين غزا تبوك بوجهه، مع أن عادته التورية، وذلك تبع للمصلحة.
ومنها: إضافة الشر
وأسبابه إلى الشيطان، على وجه التسويل والتزيين، وإنكان الكل بقضاء الله وقدره، لقول فتى موسى:
{ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاالشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ
}
ومنها: جواز إخبار
الإنسان عما هو منمقتضى طبيعة النفس، من نصب أو جوع، أو عطش، إذا لم يكن
على وجه التسخطوكان صدقا، لقول موسى: { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ
سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا }
ومنها: استحباب كون
خادم الإنسان، ذكيا فطنا كيسا، ليتم له أمره الذي يريده.
ومنها: استحباب إطعام
الإنسان خادمه من مأكله، وأكلهما جميعا، لأن ظاهرقوله: { آتِنَا غَدَاءَنَا } إضافة إلى
الجميع، أنه أكل هو وهو جميعا.
ومنها: أن المعونة تنزل
على العبد على حسب قيامه بالمأمور به، وأن الموافقلأمر الله، يعان ما لا يعان غيره لقوله: {
لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَاهَذَا نَصَبًا } والإشارة إلى السفر
المجاوز، لمجمع البحرين، وأما الأول،فلم يشتك منه التعب، مع طوله، لأنه هو السفر
على الحقيقة. وأما الأخير،فالظاهر أنه بعض يوم، لأنهم فقدوا الحوت حين
أووا إلى الصخرة، فالظاهرأنهم باتوا عندها، ثم ساروا من الغد، حتى
إذا جاء وقت الغداء قال موسىلفتاه { آتِنَا غَدَاءَنَا } فحينئذ تذكر
أنه نسيه في الموضع الذي إليهمنتهى قصده.
ومنها: أن ذلك العبد
الذي لقياه، ليس نبياً، بل عبداًصالحاً، لأنه وصفه بالعبودية، وذكر منة الله
عليه بالرحمة والعلم، ولميذكر رسالته ولا نبوته، ولو كان نبيا، لذكر
ذلك كما ذكره غيره.
وأماقوله
في آخر القصة: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } فإنه لا يدل علىأنه
نبي وإنما يدل على الإلهام والتحديث، كما يكون لغير الأنبياء، كما قالتعالى
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } { وَأَوْحَىرَبُّكَ
إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا
}
ومنها: أن العلم الذي
يعلمه الله [لعباده] نوعان:
علم مكتسب يدركه العبد
بجده واجتهاده.
ونوع علم لدني، يهبه
الله لمن يمن عليه من عباده لقوله { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا
}
ومنها: التأدب مع
المعلم، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب، لقول موسى عليه السلام:
{ هَلْ أَتَّبِعُكَ
عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا } فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة،
وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لاوإقراره بأنه يتعلم منه، بخلاف ما عليه أهل
الجفاء أو الكبر، الذي لا يظهرللمعلم افتقارهم إلى علمه، بل يدعي أنه
يتعاون هم وإياه، بل ربما ظن أنهيعلم معلمه، وهو جاهل جدا، فالذل للمعلم،
وإظهار الحاجة إلى تعليمه، منأنفع شيء للمتعلم.
ومنها :تواضع الفاضل
للتعلم ممن دونه، فإن موسى -بلا شك- أفضل من الخضر.
ومنها: تعلم العالم
الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه، ممن مهر فيه، وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة.
فإن موسى عليه السلام
من أولي العزم من المرسلين، الذين منحهم اللهوأعطاهم من العلم ما لم يعط سواهم، ولكن في
هذا العلم الخاص كان عندالخضر، ما ليس عنده، فلهذا حرص على التعلم
منه.
فعلى هذا، لا ينبغيللفقيه
المحدث، إذا كان قاصرا في علم النحو، أو الصرف، أو نحوه من العلوم،أن لا
يتعلمه ممن مهر فيه، وإن لم يكن محدثا ولا فقيها.
ومنها: إضافةالعلم
وغيره من الفضائل لله تعالى، والإقرار بذلك، وشكر الله عليها لقوله:
{ تُعَلِّمَنِ مِمَّا
عُلِّمْتَ } أي: مما علمك الله تعالى.
ومنها: أنالعلم
النافع، هو العلم المرشد إلى الخير، فكل علم يكون فيه رشد وهدايةلطرق
الخير، وتحذير عن طريق الشر، أو وسيلة لذلك، فإنه من العلم النافع،وما
سوى ذلك، فإما أن يكون ضارا، أو ليس فيه فائدة لقوله: { أَنْتُعَلِّمَنِ
مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا }
ومنها: أن من ليس له
قوةالصبر على صحبة العالم والعلم، وحسن الثبات على ذلك،
أنه يفوته بحسب عدمصبره كثير من العلم فمن لا صبر له لا يدرك العلم، ومن
استعمل الصبرولازمه، أدرك به كل أمر سعى فيه، لقول الخضر -يعتذر من
موسى بذكر المانعلموسى في الأخذ عنه- إنه لا يصبر معه.
ومنها: أن السبب الكبير
لحصولالصبر، إحاطة الإنسان علما وخبرة، بذلك الأمر، الذي أمر
بالصبر عليه، وإلافالذي لا يدريه، أو لا يدري غايته ولا نتيجته، ولا
فائدته وثمرته ليس عندهسبب الصبر لقوله: { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى
مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا } فجعل الموجب لعدم صبره، وعدم إحاطته خبرا
بالأمر.
ومنها: الأمر بالتأني
والتثبت، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء، حتى يعرف ما يراد منه وما هو المقصود.
ومنها: تعليق الأمور
المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة، وأن لايقول الإنسان للشيء: إني فاعل ذلك في
المستقبل، إلا أن يقول { إِنْ شَاءَاللَّهُ }
ومنها: أن العزم على
فعل الشيء، ليس بمنزلة فعله، فإن موسىقال: { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ
صَابِرًا } فوطن نفسه على الصبرولم يفعل.
ومنها: أن المعلم إذا
رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أنيترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء،
حتى يكون المعلم هو الذي يوقفهعليها، فإن المصلحة تتبع، كما إذا كان فهمه
قاصرا، أو نهاه عن الدقيق فيسؤال الأشياء التي غيرها أهم منها،أو لا يدركها ذهنه، أو
يسأل سؤالا لا يتعلق في موضع البحث.
ومنها: جواز ركوب
البحر، في غير الحالة التي يخاف منها.
ومنها: أن الناسي غير
مؤاخذ بنسيانه لا في حق الله، ولا في حقوق العباد لقوله: { لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا
نَسِيتُ }
ومنها: أنه ينبغي
للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم، العفو منها،وما سمحت به أنفسهم، ولا ينبغي له أن يكلفهم
ما لا يطيقون، أو يشق عليهمويرهقهم، فإن هذا مدعاة إلى النفور منه
والسآمة، بل يأخذ المتيسر ليتيسرله الأمر.
ومنها: أن الأمور تجري
أحكامها على ظاهرها، وتعلق بهاالأحكام الدنيوية، في الأموال، والدماء
وغيرها، فإن موسى عليه السلام،أنكر على الخضر خرقه السفينة، وقتل الغلام،
وأن هذه الأمور ظاهرها، أنهامن المنكر، وموسى عليه السلام لا يسعه
السكوت عنها، في غير هذه الحال،التي صحب عليها الخضر، فاستعجل عليه السلام،
وبادر إلى الحكم في حالتهاالعامة، ولم يلتفت إلى هذا العارض، الذي
يوجب عليه الصبر، وعدم المبادرةإلى الإنكار.
ومنها: القاعدة الكبيرة
الجليلة وهو أنه " يدفع الشرالكبير بارتكاب الشر الصغير " ويراعي
أكبر المصلحتين، بتفويت أدناهما، فإنقتل الغلام شر، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه
عن دينهما، أعظم شرا منه، وبقاءالغلام من دون قتل وعصمته، وإن كان يظن أنه
خير، فالخير ببقاء دين أبويه،وإيمانهما خير من ذلك، فلذلك قتله الخضر،
وتحت هذه القاعدة من الفروعوالفوائد، ما لا يدخل تحت الحصر، فتزاحم
المصالح والمفاسد كلها، داخل فيهذا.
ومنها: القاعدة الكبيرة
أيضا وهي أن " عمل الإنسان في مال غيره،إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة،
أنه يجوز، ولو بلا إذن حتى ولوترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير "
كما خرق الخضر السفينة لتعيب، فتسلممن غصب الملك الظالم. فعلى هذا لو وقع حرق،
أو غرق، أو نحوهما، في دارإنسان أو ماله، وكان إتلاف بعض المال، أو
هدم بعض الدار، فيه سلامةللباقي، جاز للإنسان بل شرع له ذلك، حفظا
لمال الغير، وكذلك لو أراد ظالمأخذ مال الغير، ودفع إليه إنسان بعض المال
افتداء للباقي جاز، ولو من غيرإذن.
ومنها: أن العمل يجوز
في البحر، كما يجوز في البر لقوله: { يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ } ولم ينكر عليهم
عملهم.
ومنها: أن المسكين قد
يكون له مال لا يبلغ كفايته، ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة، لأن الله أخبر أن
هؤلاء المساكين، لهم سفينة.
ومنها: أن القتل من
أكبر الذنوب لقوله في قتل الغلام { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا
}
ومنها: أن القتل قصاصا
غير منكر لقوله {بِغَيْرِ نَفْسٍ }
ومنها: أن العبد الصالح
يحفظه الله في نفسه، وفي ذريته.
ومنها: أن خدمة
الصالحين، أو من يتعلق بهم، أفضل من غيرها، لأنه علل استخراج كنزهما، وإقامة
جدارهما، أن أباهما صالح.
ومنها: استعمال الأدب
مع الله تعالى في الألفاظ، فإن الخضر أضاف عيبالسفينة إلى نفسه بقوله { فَأَرَدْتُ أَنْ
أَعِيبَهَا } وأما الخير،فأضافه إلى الله تعالى لقوله: { فَأَرَادَ
رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَاأَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزهُمَا
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } كما قالإبراهيم عليه السلام { وَإِذَا مَرِضْتُ
فَهُوَ يَشْفِينِ } وقالت الجن: { وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ
فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَبِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } مع أن الكل
بقضاء الله وقدره.
ومنها: أنه ينبغي
للصاحب أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال، ويترك صحبته، حتى يعتبه، ويعذر منه،
كما فعل الخضر مع موسى.
ومنها: أن موافقة
الصاحب لصاحبه، في غير الأمور المحذورة، مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها، كما أن
عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة.
ومنها: أن هذه القضايا
التي أجراها الخضر هي قدر محض أجراها الله وجعلهاعلى يد هذا العبد الصالح، ليستدل العباد
بذلك على ألطافه في أقضيته، وأنهيقدر على العبد أمورا يكرهها جدا، وهي صلاح
دينه، كما في قضية الغلام، أووهي صلاح دنياه كما في قضية السفينة، فأراهم
نموذجا من لطفه وكرمه،ليعرفوا ويرضوا غاية الرضا بأقداره المكروهة.
:::المرجع: تفسير
العلامة الشيخ ابن سعدي رحمه الله:::