لم
يكن العز بن عبد السلام بالاسم الذي يجهله أحد سواء في الماضي أو الحاضر
فمع كونه فقيهًا معلمًا، كان القائد المعنوي لمعركة عين جالوت والتي غيرت
مجرى التاريخ بتصدي المسلمين لجحافل التتار.
من هو؟
أبو
محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد
بن مهذّب السُلمي مغربي الأصل، ولد بمدينة دمشق وهو شافعي المذهب، ملقب
بسلطان العلماء وبائع الملوك والأمراء. اشتهر باسم العزّ بن عبد السلام.
وُلد الإمام الشيخ العز بن عبد السلام في دمشق عام 578هـ، وعاش فيها وبرز
في الدعوة والفقه، توفي سنة 660هـ في مصر. وكان من صفاته رحمة الله عليه
أن له في وجهه قسامة، ولأساريره قسامة، جليلاً مقبول الصورة، وكان ذا
شخصية قويه، وكان في مظهره من الملبس وغبره متواضعًا، وكان لا يتأنق ليزيف
عن نفسه ولا ليكذب في الحشمة ولا يستألف الوقار استئلافًا، ولم يكن يتقيد
بلبس العمامة والتي كانت عادة العلماء والفقهاء في عصره.
علمه
لم يطلب العز العلم صغيرًا مثل أقرانه، وإنما ابتدأ العلم في سن متأخرة،
وانتظم في التزام حلقات الدرس وأكب على العلم بشغف ونهم وهمة عالية، فحصل
في سنوات قليلة ما يعجز أقرانه عن تحصيله في سنوات طويلة، ورزقه الله
الفهم العميق والذكاء الخارق فأعانه ذلك على إتقان الفقه والأصول، ودراسة
التفسير وعلوم القرآن وتلقي الحديث وعلومه، وتحصيل اللغة والأدب والنحو
والبلاغة.
عاش العز بن عبد السلام في دمشق في كنف أسرة متدينة
فقيرة مغمورة، وهذه تربة صالحة للنبوغ والتفوق، وابتدأ العلم في سن
متأخرة. يروي السبكي قصة ذلك عن والده: "كان الشيخ عز الدين في أول أمره
فقيرًا جدًّا، ولم يشتغل إلا على كبر (أي في العلم)، وسبب ذلك أنه كان في
بيت في الكلاَّسة- وهي الزاوية والبناء والمدرسة عند الباب الشمالي للمسجد
الأموي- من جامع دمشق، فبات بها ليلة ذات برد شديد فاحتلم، فقام مسرعًا،
ونزل في بركة الكلاسة، فحصل له ألم شديد من البرد، وعاد فنام، فاحتلم
ثانية، فعاد إلى البركة، لأن أبواب الجامع مغلقة، وهو لا يمكنه الخروج،
فطلع فأغمي عليه من شدة البرد، أنا أشك (والد السبكي يتكلم) هل كان الشيخ
الإمام يحكي أن هذا اتفق له ثلاث مرات أو مرتين فقط، ثم سمع النداء في
المرة الأخيرة: يا ابن عبد السلام، أتريد العلم أم العمل؟ فقال الشيخ عز
الدين: العلم لأنه يهدي إلى العمل، فأصبح وأخذ التنبيه- وهو أهم كتاب
مختصر في الفقه الشافعي للشيرازي، ويعتبر الكتاب الأول للمبتدئين- فحفظه
في مدة يسيرة، وأقبل على العلم حتى صار أعلم أهل زمانه، ومن أعبد خلق الله.
وأشهر شيوخ العز ما ذكرهم السبكي في طبقات الشافعية بقوله: تفقه على الشيخ
فخر الدين بن عساكر، وقرأ الأصول على الشيخ سيف الدين الآمدي وغيره، وسمع
الحديث من الحافظ أبي محمد القاسم بن عساكر.
ومن أشهر ما قال حول
البدعة حيث قال: "البدعة فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وهي منقسمة إلى بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة
مكروهة، وبدعة مباحة.. وللبدع الواجبة أمثلة: أحدها الاشتغال بعلم النحو
الذي يفهم به كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك واجب، لان
حفظ الشريعة واجب، ولا يتأتى حفظها إلا بمعرفة ذلك، وما لا يتم الواجب إلا
به فهو واجب.. المثال الرابع: الكلام في الجرح والتعديل ليتميز الصحيح من
السقيم".
وقال أيضا: "كيف تُعرف مصالح الدين والدنيا ومفاسدها؟
أما مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها: فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها
شيء طلب من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر
والاستدلال الصحيح.
وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها: فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته.
ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحهما ومرجوحهما فليعرض
ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبني عليه الأحكام فلا يكاد
حكمٌ منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبَّد الله به عبادَه ولم يقفهم على مصلحته
أو مفسدته، وبذلك تعرف حسن الأعمال وقبحها".
ومن مؤلفاته:
1- أحكام الجهاد وفضائله.
2- بيان أحوال الناس يوم القيامة.
3- ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام.
4- رسالة في ذم صلاة الرغائب.
5- رسائل في التوحيد
6- شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال.
7- الفتاوى المصرية.
8- الفتاوى الموصلية.
9- الفتن والبلايا والمحن والرزايا.
10- الفوائد في اختصار المقاصد.
11- معنى الإيمان والإسلام.
12- مقاصد الرعاية لحقوق الله عز وجل.
13- مقاصد الصلاة.
14- مقاصد الصوم.
جهاده
لم ينفصل جهاد العز عن حياته حيث كانت حياته كلها علمًا وجهادًا، فتولى
خطابة الجامع الأموي الكبير بدمشق، وبعد فترة قام الملك الصالح إسماعيل
بقتال ابن أخيه الصالح أيوب حاكم مصر وانتزاع السلطة من يده، وأعطى حصن
الصفد والثقيف للصليبيين وسمح لهم بدخول دمشق لشراء السلاح والطعام وعندها
غضب العز وصعد المنبر وخطب الناس خطبةً عصماءَ وأفتى بحُرمة بيع السلاح
للفرنجة وحُرمة الصلح معهم، ثم قطع الخطبة عن الصالح إسماعيل وكان ذلك
بمثابة إعلان للعصيان العام، وقال في آخر خطبته اللهم أبرم أمر رشد لهذه
الأمة يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويأمر بالمعروف وينهى فيه عن
المنكر ثم نزل. علم الملك الصالح إسماعيل بخروج العز عن طاعته، فغضب عليه
غضبًا شديدًا، وأمر بإبعاده عن الخطابة، وسجنه، وبعدما حصل الهرج والمرج،
واضطرب أمر الناس، أخرجه من السجن ومنعه من الخطبة بعد ذلك.
انتقل العز بن عبد السلام بعدها إلى مصر، فوصلها سنة 639هـ فرحب به الملك
الصالح نجم الدين فولاة الخطابة والقضاء، وكان أول ما لاحظه بعد توليه
القضاء قيام الأمراء المماليك المملوكين للدولة الإسلامية بالبيع والشراء
وقبض الأثمان، وهو ما يتعارض مع الشرع إذ أنهم في الأصل مملوكين لا يحق
لهم البيع والشراء والزواج من حرائر نساء مصر، فكان لا يمضي لهم بيعًا ولا
شراء، حتى تكالبوا عليه وشكوه إلى الملك الصالح الذي لم تعجبه فتوى الشيخ
العز، فذهب إلي الشيخ يسأله أن يعدل من فتواه، فطلب منه الشيخ ألا يتدخل
في القضاء فليس هذا للسلطان، فإن شاء أن يتدخل فالشيخ يقيل نفسه فاجتمع
أمراء الدولة من الأتراك وأرسلوا إليه، فقال الشيخ: نعقد لكم مجلسًا
وننادي عليكم بالبيع لبيت مال المسلمين فاستشاط نائب السلطنة غضبًا، وكان
من المماليك، وأقسم ليقتلن الشيخ بسيفه، فذهب إليه نائب السلطنة مع جماعة
من الأمراء فطرق بابه، ففتح الباب ابنه عبد اللطيف، فراعه منظر نائب
السلطنة إذ رأى سيفه مسلولاً، والغضب يعلو وجهه فدخل على والده وقال: انج
بنفسك إنه القتل، فرد عليه الشيخ بقوله: أبوك أقل من أن يُقتل في سبيل
الله، ثم خرج وحين وقع بصره على النائب، سقط السيف من يد النائب وارتعد،
فبكى وسأل الشيخ أن يدعو له، وقال يا سيدي ماذا ستفعل؟ قال: أنادي عليكم
وأبيعكم.
إلا أن السلطان لم يذعن لحكم الشيخ، فأرسل إليه من
يتلطف إليه، وبعد إصرار الشيخ أخبره الرسول أن السلطان لن يسمح ببيع
الأمراء، وأمر السلطان واجب، وهو فوق قضاء الشيخ عز الدين! وعلى أية حال
فليس للشيخ أن يدخل في أمور الدولة فشئون الأمراء لا تتعلق به بل بالسلطان
وحده!
فأنكر الشيخ تدخل السلطان في القضاء وقام فجمع أمتعته ووضعها على حمار ووضع أهله على حمير أخرى، وساق الحمير ماشيًا.
تجمع الناس وراءه وتبعه العلماء والصلحاء والتجار والنساء والصبيان، حتى
كادت مصر أن تخلو من سكانها. خرج الملك الصالح مسرعًا ولحق بالعز وأدركه
في الطريق وترضّاه، وطلب منه أن يعود وينفذ حكم الله، فتم له ذلك.
واشتهر العز بعدها بأنه بائع الملوك، فازداد الأمراء المماليك غضبًا وتآمروا علي قتل الشيخ مرة أخرى وفشلوا.
عايش العز دولة بني أيوب التي أنشأها صلاح الدين في الشام ومصر، وكانت
دولة قوية، ولكن في آخر عصرها تنافس أمراؤها وتقاتلوا على المُلك، حتى لجأ
بعضهم إلى التحالف مع الصليبيين من أجل أن يتفرغ لقتال إخوانه وبني
عمومته، ثم كان في آخر دولتهم أن حكمتهم امرأة هي شجر الدر، غير أن
المصريين استنكروا وجود سيدة تتحكم في رقاب الأمراء والكبراء والسادة،
وغضبوا غضبًا شديدًا، وخرجت المظاهرات الغاضبة تستنكر هذا الحضور والنفوذ
السياسي الكبير لسيدة من سيدات القصر، وقاد المعارضة العز بن عبد السلام،
ووقف وسط جموع المتظاهرين، منددًا بجلوس امرأة على عرش مصر، مبينًا أن هذا
الجلوس مخالفًا للشرع الحكيم، ما اضطر شجرة الدر بعدها للتنحي بعد 80
يومًا قضتها في الحكم.
وبعد وصول قطز لسدة حكم مصر، وظهور خطر
التتار ووصول أخبار فظائعهم ورسلهم المهددين، وللاستعداد لملاقاة التتار
الزاحفين، أمر قطز بجمع الأموال للإعداد للحرب، ووقف العلماء وعلى رأسهم
العز بن عبد السلام أمام الأمراء وقادة الجند، فقرروا ألا يؤخذ من الناس
شيئًا إلا إذا كان بيت المال فارغًا، وبعدما يخرج الأمراء والتجار وأغنياء
الناس من أموالهم وذهبهم حتى يتساوى الجميع، فنزل قطز على حكم العلماء.
الشيخ وعين جالوت
واستعد المظفر قطز للقتال وجمع عددًا ضخمًا من الجنود بينهم كثير من عربان
الشرقية والغربية، ونادى بالنفير العام إلى الغزو في سبيل الله تعالى،
فاجتمع عنده من عساكر مصر نحو أربعين ألفًا، ثم برزت مشكلة جمع الأموال
اللازمة لهذا الجهاد، فعقد مجلسًا دعي إليه القضاة والمشايخ، وكان على
رأسهم شيخ الإسلام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله تعالى،
واستشار السلطان قطز عز الدين بن عبد السلام في شأن المال، فقال الإمام
كلامًا عظيمًا لا يصدر إلا ممن وثق بنصر الله تعالى لعبيده فقال: (اخرجوا
وأنا أضمن لكم على الله النصر)، فقال السلطان: (إن المال في خزانتي قليل
وأنا أريد أن أقترض من أموال التجار)، فقال له الإمام ابن عبد السلام:
(إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام
اتخاذه، وضربته سكة ونقدًا، وفرقته في الجيش ولم يقم بكفايتهم، ذلك الوقت
اطلب القرض، وأما قبل ذلك فلا)، فأحضر السلطان والعسكر كلهم ما عندهم من
ذلك بحضرة الشيخ، وكانت له عندهم عظمة، وله في أنفسهم مهابة بحيث لا
يستطيعون مخالفته، فامتثلوا ما قاله.
تقابل الفريقان وانتصر المسلمون في عين جالوت في رمضان 658هـ الموافق 1260م.
وفاته
توفي الشيخ العز بن عبد السلام في جمادى الأولى 660 هـ= 9 من أبريل 1266م
وعندما مرت جنازته أسفل القلعة ورأها السلطان بيبرس قال: "اليوم استقر
أمري في الملك، لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس: اخرجوا عليه لانتزع
الملك مني".