الصحابة رضي الله عنهم
أبي بن كعب
إنه أبي بن كعب -رضي الله عنه- أحد فقهاء الصحابة وقرَّائهم، وقد شهد بيعة
العقبة الثانية، وبايع النبي فيها، وكان من الأنصار الذين نصروا رسول الله
، واستقبلوه في يثرب، وقد شهد كل الغزوات مع النبي ، وأمه صهيلة بنت
الأسود، عمة أبي طلحة الأنصاري، وكان يُكَنَّى بأبي الطفيل وأبي المنذر.
وسأله النبي ذات يوم: (يا أبا المنذر أتدرى أي آية من كتاب الله معك
أعظم؟) فأجاب قائلا: الله ورسوله أعلم. فأعاد النبي سؤاله: (يا أبا المنذر
أتدرى أي آية من كتاب الله معك أعظم؟) فأجاب أُبي: {الله لا إله إلا هو
الحي القيوم} فضرب النبي صدره بيده، ودعا له بخير، وقال: (ليَهْنِك العلم
أبا المنذر (أي هنيئًا لك العلم). [مسلم].
وكان أبي بن كعب -رضي الله
عنه- من أوائل الذين كانوا يكتبون الوحي عن النبي ، ويكتبون الرسائل، وقد
قال عنه النبي : (أقرأ أمتي أبى) [الترمذي].
وكان من أحرص الناس على
حفظ القرآن الكريم، قال له رسول الله يومًا: يا أبي بن كعب، إن الله أمرني
أن أقرأ عليك: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} [البينة: 1]، فقال أُبي
في نشوة غامرة: يا رسول الله: بأبي أنت وأمى، آلله سمَّاني لك؟ فقال
الرسول : (نعم)، فجعل أبي -رضي الله عنه- يبكى من شدة الفرح. [مسلم].
وكان -رضي الله عنه- واحدًا من الستة أصحاب الفُتْيَا الذين أذن لهم رسول
الله بالحكم في حوائج الناس، وفض المنازعات التي تحدث بينهم، وردِّ
المظالم إلى أهلها، وهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن
مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن حارثة، وأبو موسى الأشعري.
وقال فيه وفي
غيره: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدَّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء
عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم (أعلمهم بالمواريث) زيد بن
ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وإن
أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) [الترمذى وابن ماجه].
وكان -رضي
الله عنه- لا يخاف في الله لومة لائم، وكان من الذين لا يطلبون من الدنيا
عرضًا، فليس لها نصيب في قلوبهم، فعندما اتسعت بلاد المسلمين ورأى الناس
يجاملون ولاتهم في غير حق قال: هلكوا وربِّ الكعبة، هلكوا وأهلكوا، أما
إني لا آسى (أحزن عليهم) ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين.
وكان
أبي بن كعب ورعًا تقيًّا يبكي إذا ذكر الله، ويهتز كيانه حين يرتل آيات
القرآن أو يسمعها، وكان إذا تلا أو سمع قوله تعالى: {قل هو القادر على أن
يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم
بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون}[الأنعام: 65]، يغشاه الهم
والأسى.
وقد روي أن رجلا من المسلمين، قال يا رسول الله: أرأيت هذه
الأمراض التي تصيبنا وما نلاقيها؟ قال: (كفارات)، فقال أبي ابن كعب: يا
رسول الله، وإن قَلَّتْ؟ قال: (وإن شوكة فما فوقها)، فدعا أبي أن لا
يفارقه الوَعْك حتى يموت، وأن لا يشغله عن حج، ولا عمرة ولا جهاد، ولا
صلاة مكتوبة في جماعة، فقال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: فما مس إنسان
جسده إلا وجد حرَّه حتى مات. [أحمد وابن حبان].
وقد كان أبي -رضي الله
عنه- مستجاب الدعوة، فيحكى ابن عباس أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال
لجمع من الصحابة: اخرجوا بنا إلى أرض قومنا. فكان ابن عباس مع أبي بن كعب
في مؤخرة الناس، فهاجت سحابة، فدعا أبي قائلا: اللهم اصرف عنا أذاها. فلحق
ابن عباس وأبي الناس، فوجدوا أن رحالهم ابتلت: فقال عمر: ما أصابكم؟ (أي:
كيف لم تبل رحالكما؟) فقال ابن عباس: إن أبيَّا قال: اللهم اصرف عنا
أذاها. فقال عمر: فهلا دعوتم لنا معكم.
وكان عمر يجل أبيَّا، ويستفتيه
في القضايا، وقد أمره أن يجمع الناس فيصلي بهم في المسجد صلاة التراويح في
رمضان، وقبلها كان يصلي كل إنسان وحده.
وروى أبي بن كعب -رضي الله
عنه- بعض الأحاديث عن رسول الله ، وروى عنه بعض الصحابة والتابعين، ومن
أقواله -رضي الله عنه-: ما ترك أحد منكم لله شيئًا إلا آتاه الله ما هو
خير له منه من حيث لا يحتسب، ولا تهاون به وأخذه من حيث لا يعلم إلا آتاه
ما هو أشد عليه من حيث لا يحتسب. وقال له رجل -ذات يوم- أوصني: فقال له
أُبيُّ: اتخذ كتاب الله إمامًا، وارض به قاضيًا وحكمًا، فإنه الذي استخلف
فيكم رسولكم، شفيع، مطاع، وشاهد لا يتهم، فيه ذكركم وذكر من قبلكم، وحكم
ما بينكم، وخبركم وخبر ما بعدكم. [أبو نعيم].
وتوفي -رضي الله عنه- في
خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ويوم موته رأى رجل الناس في المدينة
يموجون في سككهم، فقال: ما شأن هؤلاء؟ فقال بعضهم: ما أنت من أهل البلد؟
قال: لا. قال: فإنه قد مات اليوم سيد المسلمين، أبي بن كعب
محامي الفقراء
أبو ذر الغفاري
إنه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري جندب بن جنادة -رضي الله عنه-، ولد في
قبيلة غفار، وكان من السابقين إلى الإسلام، وكان أبو ذر قد أقبل على مكة
متنكرًا، وذهب إلى الرسول وأعلن إسلامه، وكان الرسول يدعو إلى الإسلام في
ذلك الوقت سرًّا، فقال أبو ذر للنبي : بم تأمرني؟ فقال له الرسول : (ارجع
إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري)، فقال أبو ذر: والذي نفسي بيده لأصرخنَّ
بها (أي الشهادة) بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد ونادى بأعلى صوته:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
فقام إليه المشركون
فضربوه ضربًا شديدًا، وأتى العباس بن عبد المطلب عم النبي فأكب عليه،
وقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأنه طريق تجارتكم إلى الشام؟
فثابوا إلى رشدهم وتركوه، ثم عاد أبو ذر في الغد لمثلها فضربوه حتى أفقدوه
وعيه، فأكب عليه العباس فأنقذه.[متفق عليه].
ورجع أبو ذر إلى قومه
فدعاهم إلى الإسلام، فأسلم على يديه نصف قبيلة غفار ونصف قبيلة أسلم،
وعندما هاجر النبي إلى المدينة، أقبل عليه أبو ذر مع قبيلته غفار وجارتها
قبيلة أسلم، ففرح النبي وقال: (غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله)
[مسلم]. وخصَّ النبي أبا ذر بتحية مباركة فقال: ما أظلت الخضراء (السماء)،
ولا أقلت الغبراء (الأرض) من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر[الترمذي
وابن ماجه].
وكان أبو ذر من أشد الناس تواضعًا، فكان يلبس ثوبًا كثوب
خادمه، ويأكل مما يطعمه، فقيل له: يا أبا ذر، لو أخذت ثوبك والثوب الذي
على عبدك وجعلتهما ثوبًا واحدًا لك، وكسوت عبدك ثوبًا آخر أقل منه جودة
وقيمة، ما لامك أحد على ذلك، فأنت سيده، وهو عبد عندك، فقال أبو ذر: إني
كنت ساببت (شتمت) بلالاً، وعيرته بأمه؛ فقلت له: يا ابن السوداء، فشكاني
إلى رسول الله ، فقال لي النبي : (يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك
جاهلية، فوضعت رأسي على الأرض، وقلت لبلال: ضع قدمك على رقبتي حتى يغفر
الله لي، فقال لي بلال: إني سامحتك غفر الله لك، وقال : إخوانكم خولكم
(عبيدكم)، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل،
وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)
[البخاري].
وكان أبو ذر -رضي الله عنه- يحب الله ورسوله حبًّا
كبيرًا، فقد روى أنه قال للنبي : يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولا
يستطيع أن يعمل بعملهم، فقال له النبي : (أنت مع مَنْ أحببت يا أبا ذر)
فقال أبو ذر: فإني أحب الله ورسوله، فقال له النبي : (أنت مع مَن أحببت)
[أحمد]، وكان يبتدئ أبا ذر إذا حضر، ويتفقده (يسأل عنه) إذا غاب.
وقد
أحب أبو ذر العلم والتعلم والتبحر في الدين وعلومه، وقال عنه علي بن أبي
طالب -رضي الله عنه-: وعى أبو ذر علمًا عجز الناس عنه، ثم أوكأ عليه فلم
يخرج شيئًا منه. وكان يقول: لباب يتعلمه الرجل (من العلم) خير له من ألف
ركعة تطوعًا.
وكان -رضي الله عنه- زاهدًا في الدنيا غير متعلق بها لا
يأخذ منها إلا كما يأخذ المسافر من الزاد، فقال عنه النبي : (أبو ذر يمشى
في الأرض بزهد عيسى بن مريم عليه السلام) [الترمذي].
وكان أبو ذر
يقول: قوتي (طعامي) على عهد رسول الله صاع من تمر، فلست بزائد عليه حتى
ألقى الله تعالى. ويقول: الفقر أحب إليَّ من الغنى، والسقم أحب إليَّ من
الصحة. وقال له رجل ذات مرة: ألا تتخذ ضيعة (بستانًا) كما اتخذ فلان
وفلان، فقال: لا، وما أصنع بأن أكون أميرًا، إنما يكفيني كل يوم شربة ماء
أو لبن، وفي الجمعة قفيز (اسم مكيال) من قمح. وكان يحارب اكتناز المال
ويقول: بشر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاوٍ من نار تكوى بها
جباههم وجنوبهم يوم القيامة.
وكان يدافع عن الفقراء، ويطلب من
الأغنياء أن يعطوهم حقهم من الزكاة؛ لذلك سُمي بمحامي الفقراء، ولما عرض
عليه عثمان بن عفان أن يبقى معه ويعطيه ما يريد، قال له: لا حاجة لي في
دنياكم.
وعندما ذهب أبو ذر إلى الرَّبذة وجد أميرها غلامًا أسود
عيَّنه عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ولما أقيمت الصلاة، قال الغلام لأبي
ذر: تقدم يا أبا ذر، وتراجع الغلام إلى الخلف، فقال أبو ذر، بل تقدم أنت،
فإن رسول الله أمرني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدًا أسود. فتقدم الغلام وصلى
أبو ذر خلفه.
وظل أبو ذر مقيمًا في الرَّبَذَة هو وزوجته وغلامه حتى
مرض مرض الموت فأخذت زوجته تبكي، فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: ومالي لا
أبكي وأنت تموت بصحراء من الأرض، وليس عندي ثوب أكفنك فيه، ولا أستطيع
وحدي القيام بجهازك، فقال أبو ذر: إذا مت، فاغسلاني وكفناني، وضعاني على
الطريق، فأول ركب يمرون بكما فقولا: هذا أبو ذر. فلما مات فعلا ما أمر به،
فمرَّ بهم عبد الله بن مسعود مع جماعة من أهل الكوفة، فقال: ما هذا؟ قيل:
جنازة أبي ذر، فبكى ابن مسعود، وقال: صدق رسول الله : يرحم الله أبا ذر،
يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)، فصلى عليه، ودفنه بنفسه. [ابن سعد]،
وكان ذلك سنة (31هـ) وقيل: سنة (32 هـ).
الشاعر الشهيد
عبد الله بن رواحة
إنه الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة الخزرجي الأنصاري -رضي الله عنه-
وكان يكنى أبا محمد. وقد حضر بيعتي العقبة الأولى والثانية، وشهد بدرًا
وأحدًا والخندق، وكان أحد شعراء النبي الثلاثة، وكان بين يدي النبي في
عمرة القضاء يقول:
خَلُّوا بني الكُفَّار عَنْ سَبيلِهِ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الخَلِيلَ عَنْ خَلِيـله
فنادى عليه عمر وقال له: في حرم الله وبين يدي رسول الله تقول هذا الشعر؟
فقال له النبي : (خَلِّ عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من
وَقْعِ النبل) [أبو يعلي].
وكان عبد الله عابدًا محبًا لمجالس العلم
والذِّكر، فيروى أنه كان إذا لقى رجلا من أصحابه قال له: تعال نؤمن بربنا
ساعة. وذات مرة سمعه أحد الصحابة يقول ذلك، فذهب إلى النبي ، وقال: يا
رسول الله، ألا ترى ابن رواحة، يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة؟! فقال له
النبي : (رحم الله ابن رواحة إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة)
[أحمد].
وذات مرة ذهب عبد الله إلى المسجد والنبي يخطب، وقبل أن يدخل
سمع النبي يقول: (اجلسوا) فجلس مكانه خارج المسجد حتى فرغ النبي من
خطبتيه، فبلغ ذلك النبي ، فقال له: زادك الله حرصًا على طواعية الله
ورسوله) [البيهقي].
وكان كثير الخوف والخشية من الله، وكان يبكي
كثيرًا، ويقول: إن الله تعالى قال: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 17]، فلا
أدري أأنجو منها أم لا؟
وعُرفَ عبد الله بن رواحة بكثرة الصيام حتى
في الأيام الشديدة الحر، يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه- خرجنا مع النبي
( في بعض أسفاره في يوم حار حتى وضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما
فينا صائم إلا النبي وابن رواحة.
ولما نزل قول الله تعالى: {والشعراء
يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا
يفعلون} [224-226] أخذ عبد الله في البكاء لأنه كان شاعرًا يقول الشعر،
ويدافع به عن الإسلام والمسلمين، وقال لنفسه: قد علم الله أني منهم، وكان
معه كعب بن مالك، وحسان بن ثابت، وهم شعراء الرسول الثلاثة، فنزل قول الله
تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرًا وانتصروا من
بعد ما ظلموا} [الشعراء: 227]. ففرح عبد الله بذلك، واستمر في نصرة
المسلمين بشعره.
وذات يوم أنشد عبد الله من شعره بين يدي النبي ، وقال:
إِنِّي تَفَرَّسْتُ فِيكَ الخَيْــــرَ أَعْرِفُـــهُ
وَاللهُ يَعْرِفُ أنْ ما خَانَنِي الخَبَــــــرُ
أَنْتَ النبي وَمَنْ يُحْــرَمْ شَفَاعَتُـــــهُ
يَوْمَ الحِسَابِ لَقَدْ أَزْرَى بِـهِ القَــــدَرُ
فَثَّبَتَ اللهُ مَا آتَـــاكَ مـِنْ حـُسْـــنٍ
تَثَبِيتَ مَــــوسَى وَنَصْرًا كَالذي نَصَروا
فدعا له الرسول : (وإياك فثبَّتَكَ الله) [ابن سعد].
وكما نصر عبد الله الإسلام في ميدان الكلمة، فقد نصره باقتدار في ميدان الحرب والجهاد بشجاعته وفروسيته.
وكان ابن رواحة أمينًا عادلاً، وقد أرسله النبي إلى يهود خيبر؛ ليأخذ
الخراج والجزية مما في أراضيهم، فحاولوا إعطاءه رشوة؛ ليخفف عنهم الخراج،
فقال لهم: يا أعداء الله، تطعموني السحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب
الناس إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي
إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم (أي أتعامل معكم بالعدل).
وفي
شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة، علم الرسول أن الروم قد حشدوا
جيوشهم استعدادًا للهجوم على المسلمين، فأرسل النبي جيشًا إلى حدود الشام
عدده ثلاثة آلاف مقاتل؛ ليؤمِّن الحدود الإسلامية من أطماع الروم، وجعل
زيد بن حارثة أميرًا على الجيش، وقال لهم: (إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل
جعفر فعبد الله بن رَواحة) [البخاري].
فلما وصل جيش المسلمين إلي
حدود الشام، علموا أن عدد جيش الروم مائتا ألف فارس، فقالوا: نكتب إلى
النبي ليرسل إلينا مددًا من الرجال، أو يأمرنا أن نرجع أو أي أمر آخر،
فقال لهم ابن رواحة: يا قوم، والله إن التي تكرهون هي التي خرجتم تطلبون،
إنها الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، إنما نقاتلهم بهذا
الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور
(نصر) وإما شهادة.
فكبر المسلمون وواصلوا مسيرتهم حتى نزلوا قرية
بالشام تسمى مؤتة، وفيها دارت الحرب، وقاتل المسلمون أعداءهم قتالاً
شديدًا، وأخذ زيد بن حارثة يقاتل ومعه راية المسلمين، فاستشهد زيد، فأخذ
الراية جعفر بن أبي طالب، وراح يقاتل في شجاعة حتى استشهد، فأخذ عبد الله
الراية، فأحس في نفسه بعض التردد، ولكنه سرعان ما تشجع، وراح يقاتل في
شجاعة ويقول:
أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّـه طَائِعَةً أَوْ لَتُكْرهِنَّـــــــه
فَطَالَمَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّـة مَالِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الجَنَّــــةْ
يَا نَفْسُ إلا تُقْتَلِى تَمُوتـي وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيـــــت
إِنْ تَفْعَلِى فَعْلَهُمَا هُدِيـتِ وَإِنْ تَأَخَّرْتِ فَقَد شُقِيــــتِ
ونال عبد الله الشهادة، ولحق بصاحبيه زيد وجعفر.[/size]